يُعتبر الدماغ البشري واحداً من أكثر الأجهزة تعقيداً وإثارة للدهشة في جسم الإنسان، فهو يمتلك قدرة مذهلة على التكيف مع البيئات المختلفة ومعالجة المعلومات بطرق مرنة وديناميكية. تكشف الأبحاث الحديثة عن أن هذه المرونة تعتمد بشكل كبير على توازن بين نوعين من الآليات التثبيطية، التي تنظم التفاعل بين الإيقاعات البطيئة (ثيتا) والسريعة (جاما). هذه الدراسة تقدم رؤى جديدة حول كيفية تفاعل الدماغ مع المحفزات الجديدة والمألوفة.
التوازن بين الإيقاعات الدماغية
أظهرت النتائج المنشورة في مجلة PLoS Computational Biology أن المرونة الدماغية تعتمد على توازن بين نوعين من الآليات التثبيطية، حيث تنظم هذه الآليات التفاعل بين الإيقاعات البطيئة والسريعة. بفضل هذا التوازن، يمكن للدماغ اختيار مصادر معلومات مختلفة، سواء كانت محفزات حسية من البيئة الخارجية أو تجارب حسية مخزنة في الذاكرة.
أظهرت الدراسة أن الفهم السابق الذي اعتقد أن مرحلة الإيقاعات البطيئة تنظم سعة النشاط السريع لم يكن دقيقًا، حيث تبين أن العلاقة بينهما ثنائية الاتجاه. وهذا يعني أن الدماغ يمكنه تغيير قنوات الاتصال وفقاً للسياق من خلال تعديل التوازن بين أنواع مختلفة من التثبيط.
دور الحُصين والتجارب الحسية
للتوصل إلى هذه الاستنتاجات، جمع الباحثون بين النماذج الحاسوبية والتسجيلات التجريبية في منطقة الحُصين، وهي منطقة دماغية حيوية للذاكرة والملاحة. لاحظوا أنه في البيئات المألوفة، حيث تكون التجارب الحسية معروفة بالفعل، تفضل الخلايا العصبية وضع الاتصال المباشر الذي يسهل النقل من القشرة الداخلية إلى الحُصين. في هذا الوضع، يتم تفعيل الذاكرة المعروفة بشكل أكبر.
وعلى النقيض من ذلك، عند مواجهة المستجدات، يُفعل الدماغ وضعًا آخر يدمج إعادة تفعيل الذاكرة مع المدخلات الحسية الجديدة، حيث يتم إعطاء الأولوية لتحديث الذاكرة.
التطبيقات المستقبلية والاهتمام
تشير الدراسة إلى أن هذا الشكل المرن من التنسيق بين الإيقاعات الدماغية يمكن أن يمتد إلى وظائف معرفية أخرى مثل الانتباه. في الواقع، أظهرت الأعمال الحديثة على البشر أنماطًا تتوافق مع النموذج الحاسوبي المستخدم في الدراسة، مما يشير إلى أن الدماغ يعتمد على مبدأ عام يتمثل في التوازن بين الدوائر التثبيطية لتوجيه المعلومات ضمن شبكته المعقدة من الاتصالات.
تخطط الأبحاث المستقبلية لتوسيع النموذج ليشمل تنوعًا أكبر من أنواع الخلايا العصبية والهياكل المعمارية الخاصة بكل منطقة دماغية لفهم كيفية تغيّر هذا التوازن في الأمراض مثل الصرع والإدمان ومرض الزهايمر.
الخاتمة
في الختام، تقدم هذه الدراسة فهمًا عميقًا للآليات التي يستخدمها الدماغ للتكيف مع بيئات مختلفة ومعالجة المعلومات بشكل ديناميكي. من خلال توازن مرن بين الآليات التثبيطية، يمكن للدماغ تحديد الأولويات بين المدخلات المرتبطة بالذاكرة أو المعلومات الحسية الجديدة. هذه المرونة ليست مهمة فقط للذاكرة والملاحة، بل تمتد أيضًا إلى وظائف معرفية أخرى مثل الانتباه. الأبحاث المستقبلية قد توفر رؤى جديدة حول كيفية استخدام هذه الآليات في تطوير استراتيجيات علاجية لحالات مرضية متعددة.


