في تطور علمي لافت، تمكن الباحثون في قسم الفيزياء بمعهد العلوم الهندي بالتعاون مع زملائهم من المعهد الوطني لعلوم المواد في اليابان، من الكشف عن السائل الكمومي للإلكترونات في الجرافين، وهو مادة تتكون من طبقة واحدة من ذرات الكربون النقي. هذه النتائج التي نُشرت في مجلة Nature Physics فتحت نافذة جديدة على عالم الكم وأثبتت أن الجرافين يعد مختبرًا فريدًا لدراسة الظواهر الكمومية غير المسبوقة.
الجرافين: مادة المستقبل
منذ اكتشافه قبل عشرين عامًا، لا يزال الجرافين يثير اهتمام الباحثين والعلماء حول العالم. فكونه مادة تتكون من طبقة واحدة من ذرات الكربون، فإنه يتمتع بخصائص فيزيائية وكيميائية فريدة. يعبر البروفسور أريندام غوش، أحد المؤلفين الرئيسيين للدراسة، عن دهشته قائلاً: “من المدهش أن هناك الكثير لاكتشافه في طبقة واحدة فقط من الجرافين حتى بعد مرور عقدين على اكتشافه”.
تعد قدرة الجرافين على توصيل الكهرباء والحرارة بشكل متزامن من أبرز خصائصه. ومع ذلك، اكتشف الفريق البحثي علاقة عكسية بين هذين الخاصيتين، حيث تتزايد قدرة التوصيل الكهربائي على حساب التوصيل الحراري والعكس بالعكس. هذا الاكتشاف يتحدى مبدأ قانون فيدمان-فرانز التقليدي في المعادن، الذي ينص على أن القيمتين يجب أن تكونا متناسبتين طرديًا.
الانحراف عن القوانين الفيزيائية التقليدية
في العينات التي أعدها فريق معهد العلوم الهندي، لاحظ الباحثون انحرافًا كبيرًا عن قانون فيدمان-فرانز، حيث تجاوزت النسبة 200 عند درجات حرارة منخفضة. هذا الانحراف يوضح فك ارتباط آليات توصيل الشحنة والحرارة، إلا أن هذه الظاهرة ليست عشوائية. تعتمد كل من توصيل الشحنة والحرارة في هذه الحالة على ثابت كوني مستقل عن المادة، يعادل كمية التوصيل الكمومي، وهي قيمة أساسية تتعلق بحركة الإلكترونات.
هذا السلوك الغريب يظهر عند “نقطة ديراك”، وهي نقطة تحول إلكترونية دقيقة يتم تحقيقها بتعديل عدد الإلكترونات في المادة، حيث لا يكون الجرافين معدنيًا ولا عازلاً. في هذه الحالة، تتوقف الإلكترونات عن التصرف كجسيمات فردية وتتحرك معًا كما لو كانت سائلًا، تمامًا مثل الماء ولكن أقل لزوجة بمئة مرة.
السوائل الديركية: تشابه مع البلازما الكوارك-غلوون
يُشار إلى هذا السلوك المائي بالقرب من نقطة ديراك بالسائل الديركي، وهو حالة مادية غريبة تحاكي بلازما الكوارك-غلوون، وهي حساء من الجسيمات دون الذرية ذات الطاقة العالية التي تُلاحظ في مسرعات الجسيمات في سيرن. قام الفريق بقياس لزوجة هذا السائل الديركي ووجدوا أنها منخفضة جدًا، قريبة من السائل المثالي.
التطبيقات التكنولوجية والبحث العلمي
تؤكد هذه الاكتشافات أن الجرافين يعد منصة مثالية ومنخفضة التكلفة لدراسة مفاهيم الفيزياء العالية الطاقة وعلم الفضاء، مثل الديناميكا الحرارية للثقب الأسود ومقياس الإنتروبيا التشابكية، في بيئة مختبرية.
من الناحية التكنولوجية، فإن وجود السائل الديركي في الجرافين يحمل إمكانيات كبيرة للاستخدام في أجهزة الاستشعار الكمومية القادرة على تضخيم الإشارات الكهربائية الضعيفة جدًا واكتشاف المجالات المغناطيسية الضعيفة للغاية.
الخاتمة
في الختام، يعد الجرافين بثورته العلمية وقدراته الفريدة في توصيل الكهرباء والحرارة سائلًا كموميًا فريدًا يفتح آفاقًا جديدة في عالم الفيزياء الكمومية. من خلال الانحراف عن القوانين الفيزيائية التقليدية وإثبات وجود السائل الديركي، يعزز الجرافين دوره كمختبر بحثي متقدم يستكشف فيه العلماء ظواهر كونية معقدة. كما أنه يمثل مستقبلًا واعدًا للتطبيقات التكنولوجية المتطورة، مما يجعله مادة أساسية للدراسات المستقبلية والابتكارات التقنية.