معظمنا يستخدم اليد اليمنى ولكن العين اليسرى – والسبب يعود إلى تطور الدماغ

قد يبدو أن تفضيل اليد اليمنى أمر بديهي لمعظم الناس، لكن ما لا يعلمه الكثيرون هو أننا نميل أيضًا إلى استخدام المجال البصري الأيسر عند التعرف على الوجوه وتفسير العواطف. هذه الانحيازات السلوكية ليست فقط موجودة لدى البشر، بل تتشاركها معنا أنواع عديدة من الحيوانات، وقد تكون محاذاة هذه الانحيازات داخل المجتمع ميزة تطورية.

في دراسة حديثة أجراها باحثون من عدة جامعات بريطانية، تبين أن غالبية البشر لديهم ما يسمى بالبروفايل القياسي: تفضيل استخدام اليد اليمنى للمهام الحركية، وانحياز بصري نحو الجهة اليسرى عند معالجة المعلومات البصرية، مثل الوجوه. ولكن لماذا هذا النمط بالتحديد؟

الدماغ المقسم: مفتاح الأداء والتكيف

الدماغ البشري مقسم إلى نصفين، كل منهما يسيطر على الجانب المقابل من الجسم. وعندما تكون لدينا انحيازات – مثل استخدام يد معينة أو تفضيل مجال بصري معين – فإن ذلك يعزز كفاءة الأداء. على سبيل المثال، إذا كان أحد نصفي الدماغ يتولى مهمة محددة، فإن النصف الآخر يمكنه التركيز على مهام مختلفة دون تعارض، ما يسمح بتعدد المهام بشكل أفضل.

هذه الظاهرة ليست حكرًا على البشر. الكتاكيت، على سبيل المثال، تستخدم عينًا للبحث عن الطعام وأخرى لمراقبة المفترسين. الدراسات تظهر أن الكائنات التي تمتلك انحيازًا جانبيًا تكون أفضل في أداء المهام المتعلقة بالبقاء، ما يعزز فرصها في الاستمرار في البرية.

الانحياز الجماعي: فائدة اجتماعية

رغم أن وجود الانحيازات بحد ذاته مفيد، فإن محاذاتها بين أفراد المجتمع تحمل أيضًا قيمة اجتماعية. فعندما تتماشى أغلب الحيوانات أو الأفراد في نفس الاتجاه السلوكي، كما في السرب أو القطيع، فإن هذا يقلل من خطر التعرض للافتراس. الخروج عن هذا النمط – أي “الاختلاف” – قد يجعل الفرد هدفًا أسهل.

ومع ذلك، فإن وجود أقلية تختلف عن النمط السائد قد يكون له ميزة في السياقات التنافسية، مثل الرياضة، حيث تكون “المفاجأة” أو التوقع المختلف عنصرًا فاعلًا.

ماذا تقول الدراسة؟

في أول تجربة من نوعها، قام الباحثون باختبار أكثر من 1600 مشارك من خلفيات متنوعة، وقاسوا تفضيلاتهم اليدوية والبصرية، بالإضافة إلى مهاراتهم الاجتماعية. وُجد أن الأشخاص الذين لديهم بروفايل “معكوس” – أي تفضيل اليد اليسرى والمجال البصري الأيمن – كانوا أكثر عرضة بأربع مرات للإبلاغ عن تشخيص ذاتي بالتوحد أو اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط (ADHD)، مقارنةً بالمجموعات الأخرى.

لكن اللافت أن البروفايل “القياسي” لم يكن بالضرورة مرتبطًا بأداء اجتماعي أفضل من غيره، باستثناء المجموعة المعكوسة التي بدت تعاني من صعوبات اجتماعية أكبر. يشير ذلك إلى أن الانحيازات المعكوسة قد تكون مؤشرًا على بعض الحالات العصبية التنموية، لكن من السابق لأوانه القول بوجود علاقة سببية مؤكدة.

ما الذي يمكن أن تعنيه هذه النتائج؟

يشير الباحثون إلى أن هذه النتائج قد تفتح بابًا جديدًا لفهم الخصائص العصبية التي تترافق مع التوحد وADHD. إذا تأكدت هذه العلاقة من خلال مزيد من الأبحاث، فقد تُستخدم هذه الانحيازات كأدوات للكشف المبكر والتشخيص، وربما لتطوير تدخلات مبكرة للأطفال المعرضين للخطر.

الخاتمة

هذه الدراسة تبرز عمق الصلة بين التطور العصبي والسلوك البشري. انحيازات مثل تفضيل يد أو مجال بصري معين لم تتشكل عبثًا، بل تطورت عبر ملايين السنين، ولها دور في كيفية تفاعلنا مع محيطنا ومع بعضنا البعض. وما زلنا نكتشف حتى اليوم كيف أن بعض هذه السمات التي نعتبرها عادية قد تحمل مفاتيح لفهم أكثر تعقيدًا لأدمغتنا وسلوكياتنا.