تشير دراسة حديثة نُشرت في مجلة Nature إلى أن السيلوسيبين، المركب المهلوس الموجود في بعض أنواع الفطر، قادر على إذابة الشبكات العصبية في الدماغ بشكل مؤقت، مما يخلق تغييرات ملحوظة في طريقة تواصل مناطق الدماغ المختلفة. هذا الاكتشاف يضيف بُعدًا جديدًا لفهمنا لتأثيرات هذا المركب، ويفتح آفاقًا واعدة لاستخدامه في علاج بعض اضطرابات الصحة العقلية مثل الاكتئاب.
ما هو السيلوسيبين؟
السيلوسيبين هو مركب طبيعي يوجد في أنواع معينة من الفطر يُعرف باسم “الفطر السحري”، وقد أظهر في السنوات الأخيرة إمكانيات علاجية هائلة، خاصة في معالجة الاكتئاب المقاوم للعلاج والقلق واضطراب ما بعد الصدمة. يعمل السيلوسيبين عن طريق التأثير على مستقبلات السيروتونين في الدماغ، وهو ما يؤدي إلى تغييرات في الإدراك والمزاج والوعي الذاتي.
تفاصيل الدراسة وأهم نتائجها
أجرى الباحثون من جامعة واشنطن في سانت لويس تجربة دقيقة شملت سبعة مشاركين فقط، لكن تم خلالها جمع كمية كبيرة من البيانات العصبية لكل فرد. خضع المشاركون لفحوصات بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) بشكل متكرر – بمعدل 18 فحصًا لكل شخص – قبل وأثناء وبعد تلقي جرعة عالية من السيلوسيبين (25 ملغ).
لوحظ أن بصمة الاتصال العصبي الفريدة لكل شخص – والتي تشبه بصمة الأصابع من حيث الخصوصية – قد اختفت مؤقتًا بعد تلقي السيلوسيبين، لتظهر أنماط اتصال جديدة بين مناطق الدماغ لم تكن مرتبطة ببعضها من قبل.
قال الدكتور جوشوا سيغل، المؤلف المشارك في الدراسة: “السيلوسيبين أحدث تأثيرًا فوريًا وهائلًا على الدماغ، أكبر بكثير من تأثير أدوية منشطة مثل الريتالين”. وأضاف أن أحد أبرز التغييرات ظهرت في ما يُعرف بـ “شبكة الوضع الافتراضي” (Default Mode Network)، وهي شبكة دماغية نشطة عندما يكون الإنسان في حالة راحة ويُعتقد أنها مسؤولة عن الإحساس بالذات.
الدماغ تحت تأثير السيلوسيبين
أظهرت الصور الدماغية أن تزامن النشاط في شبكة الوضع الافتراضي تلاشى تحت تأثير السيلوسيبين، مما أدى إلى حالة من “الفوضى المنظمة” داخل الدماغ. هذه الحالة ربما تفسر ظاهرة “ذوبان الذات” التي يُبلغ عنها الكثير من متعاطي السيلوسيبين، حيث يشعر الشخص بانفصال مؤقت عن هويته أو إدراكه لذاته.
الدكتور نيكو دوسنباخ، أحد الباحثين المشاركين والذي خضع بنفسه للتجربة، وصف التجربة بأنها “أكثر واقعية مما كنت أتخيل”، مشيرًا إلى الأثر العميق الذي أحدثه السيلوسيبين في طريقة إدراكه لنفسه والعالم.
آفاق علاجية واعدة
تقدم هذه الدراسة دليلاً على أن إعادة تشكيل الشبكات العصبية – ولو مؤقتًا – قد يكون له فوائد علاجية للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية مزمنة مثل الاكتئاب أو اضطرابات القلق. من خلال فهم كيف يغير السيلوسيبين الاتصال العصبي، يمكن للعلماء تطوير علاجات جديدة أكثر فعالية.
كما يخطط الباحثون لإجراء دراسات مستقبلية تشمل عينات أكبر من المشاركين ولمدد زمنية أطول، لاستكشاف التأثيرات طويلة الأمد للسيلوسيبين وإمكانية دمجه في الممارسات العلاجية النفسية.
الخاتمة
تُعد هذه الدراسة خطوة مهمة نحو تسليط الضوء على كيفية تأثير السيلوسيبين على الدماغ، ليس فقط من خلال إنتاج تجارب نفسية فريدة، ولكن أيضًا من خلال إعادة تشكيل الاتصالات العصبية بطرق قد تكون مفيدة علاجيًا. وبينما ما زال الطريق طويلًا أمام اعتماده بشكل رسمي في العلاجات النفسية، فإن هذه النتائج تمثل بصيص أمل جديد في مجال علاج اضطرابات الصحة العقلية.